العولمة ومجتمع المخاطر
قد يكون عالم الاجتماع الإنجليزي "أنتوني جدنجز" هو من أبرز بقوة العلاقة بين العولمة والمخاطر. يقول جدنجز في كتابه "علم الاجتماع": "تؤدي العولمة إلى نتائج بعيدة المدى وتترك آثارها على جوانب الحياة الاجتماعية جميعها تقريباً. غير أنها باعتبارها عملية مفتوحة متناقضة العناصر، تسفر عن مخرجات يصعب التكهن بها أو السيطرة عليها. وبوسعنا دراسة هذه الظاهرة من زاوية ما تنطوي عليه من مخاطر. فكثير من التغييرات الناجمة عن العولمة تطرح علينا أشكالاً جديدة من الخطر، تختلف اختلافا بيناً عما ألفناه في العصور السابقة". (انظر جدنجز، علم الاجتماع، ترجمة فايز الصياغ، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2005).
وهكذا استطاع "جدنجز" بهذه العبارات المركزة أن يصوغ مشكلة البحث في موضوع المخاطر، وأن يحدد علاقتها الوثيقة بالعولمة.
ويمكن القول إن الرائد الذي فجر قضية المخاطر ووضعها على قائمة جدول أعمال العلم الاجتماعي المعاصر هو "إيرليش بك" أستاذ علم الاجتماع الألماني، حيث أصدر كتاباً شهيراً أثر في أجيال من الباحثين، وهو كتاب "سوسيولوجيا المخاطر" الذي كتب أولاً بالألمانية ثم ترجم من بعد إلى الفرنسية والإنجليزية، وله كتب أخرى في الموضوع يتعمق فيها في بحث مختلف قضايا المخاطر.
ومجتمع المخاطر نظرية اجتماعية تصف إنتاج وإدارة المخاطر في المجتمع الحديث. وإذا كان البشر قد تعرضوا للمخاطر طوال تاريخهم المكتوب، إلا أن المجتمع الحديث معرض لنمط خاص من الخطر، هو نتيجة لعملية التحديث ذاتها التي غيرت من التنظيم الاجتماعي. وقد ترتب على نشوء المجتمع الصناعي بما يتضمنه ذلك من استخدام واسع للآلات في المصانع والمزارع في البدايات الأولى له وتطوير الاعتماد على التكنولوجيا التي غزت في الواقع كل ميادين الحياة، إلى ظهور أنواع شتى من المخاطر لم تكن معروفة من قبل.
ويمكن القول إن توفير الضمانات الكاملة للناس مسألة تكاد أن تكون مستحيلة. ولكن ينبغي عدم المبالغة في إبراز المخاطر، لأن المجتمع الصناعي قد وفر للناس إلى درجة كبيرة أماناً اجتماعيّاً عاليّاًً. بل إن الخطر في حد ذاته -كما يرى عالم الاجتماع "جدنجز"- يمثل مبدأ لتنشيط الطاقات الإنسانية، وخصوصاً فيما يتعلق باستكشاف عوالم وأسواق جديدة. ولكن ينبغي أن نتحدث في هذا المجال عن المخاطر المحسوبة في أي نشاط إنساني، وسبل الوقاية المتوفرة.
ولعل مما يضيء الجوانب المعتمة في موضوع علاقة المخاطر بتطورات المجتمع الصناعي، تعقب التاريخ السياسي والمؤسسي له باعتباره مجموعة قواعد نشأت من خلال صراعات متعددة للتعامل مع مخاطر هذا المجتمع، وضروب عدم الأمان التي صاحبت تطوراته المتعددة.
ولابد من الإشارة إلى تطور نظام التأمين الذي واكب صعود الرأسمالية الصناعية، لأنه كان نظاماً فعالاً يقي الأفراد من عواقب المخاطر أيّاً كان نوعها.
وقد ترتب على اتساع مجالات المجتمع الصناعي واقتحامه لمجالات مستحدثة مثل غزو الفضاء وغيرها، أن نشأت الحاجة إلى تنمية طرق حساب المخاطر الذي اجتمعت العلوم الطبيعية والهندسية والاجتماعية لاستحداث مناهج منضبطة لحسابها، لأن هناك قرارات سياسية واقتصادية وتكنولوجية ومالية بالغة الأهمية سيتوقف إصدارها على دقة حسابات المخاطر. وهناك ثلاثة أنواع من المخاطر، هي المخاطر المصنعة، والمخاطر البيئية، والمخاطر الصحية.
وليس أمامنا مجال للتفصيل في المخاطر المصنعة، لأنه سبق لنا أن أشرنا إليها حين ربطنا ازدياد المخاطر في المجتمع الحديث بالتطور الصناعي والتكنولوجي الهائل الذي أدى إلى اقتحام ميادين جديدة غير مسبوقة، مثل المفاعلات الذرية وغيرها. أما المخاطر البيئية فيعود جزء كبير منها إلى التدخل الإنساني في مجال البيئة الطبيعية، واندفاع الرأسمالية المتوحشة بمشاريعها العملاقة في الصناعة والزراعة لاستنزاف الموارد الطبيعية، مما أحدث خللًا في التوازن البيئي، لأنه أثر تأثيراً سلبيّاً على التكامل الوظيفي بين مفرداته المتعددة والمتنوعة.
ويكفي أن نشير إلى ظاهرة الاحتباس الحراري وآثاره على الغلاف الجوي للأرض. فقد تبين في السنوات الماضية أن حرارة الأرض آخذة في التزايد بفعل احتباس الغازات الضارة داخل الغلاف الجوي. وينطوي الاحتباس الحراري على نتائج مدمرة.
وتأتي أخيراً المخاطر الصحية، وأبرزها ولاشك ظهور أمراض جديدة تأخذ شكل الأوبئة مثل الإيدز بالنسبة للبشر من ناحية، وجنون البقر من ناحية أخرى. وترد بعض التفسيرات انتشار هذه الأمراض -في حالة جنون البقر مثلاً- إلى تزايد استخدام المواد الكيماوية المبيدة للحشرات وللأعشاب الضارة في الإنتاج الزراعي التجاري، وفي مجال تربية الحيوانات التي أصبحت بدورها تحقن بالهرمونات والمضادات الحيوية. وقد تصاعدت في السنوات الأخيرة حدة الحملات ضد المحاصيل الزراعية المصنعة جينيّاً.
وتذهب نظرية "أيرليش بك" المذكور أعلاه، إلى أنه من جماع المخاطر المتعددة المصنعة والبيئية والصحية تشكل ما يطلق عليه مجتمع المخاطرة العالمي. ويرد السبب في نشوء هذا المجتمع إلى تسارع التطورات التكنولوجية الذي يؤدي إلى ظهور أنواع جديدة من المخاطر على الإنسان أن يواجهها أو يتكيف معها. غير أن الجديد في النظرية هو أن عالم الاجتماع الإنجليزي "جدنجز" لا يقصر المخاطر على الجوانب البيئية والصحية فحسب، بل تشتمل عنده كذلك على سلسلة من المتغيرات المترابطة المتداخلة في حياتنا الاجتماعية المعاصرة. ومن جملة هذه المتغيرات: التقلب في أنماط العمالة والاستخدام. وتزايد الإحساس بانعدام الأمن الوظيفي. وانحسار أثر العادات والتقاليد على الهوية الشخصية. وتآكل أنماط العائلة التقليدية وشيوع التحرر والديمقراطية في العلاقات الشخصية.
ويخلص "جدنجز" من كل ذلك إلى أن مستقبل الأفراد الشخصي لم يعد مستقراً وثابتاً نسبيّاً كما كان الحال في المجتمعات التقليدية، ولذلك فإن القرارات مهما كان نوعها واتجاهها، أصبحت تنطوي الآن على واحد أو أكثر من عناصر المخاطرة بالنسبة للأفراد.
ويرى "إيرليش بك" أن المخاطر تؤثر أيضاً في خيارات وقرارات أخرى تتصل بالمؤهلات التربوية والتعليمية، وبالمسارات الوظيفية والمهنية. وذلك لأنه من الصعب التنبؤ بطبيعة المهارات والخبرات العملية التي ستكون مطلوبة في مجالات الاقتصاد المقبلة المتغيرة على الدوام.
وينطبق ذلك على وجه الخصوص على العلاقة بين نظام التعليم واحتياجات السوق. بمعنى أن أبناء جيل كامل من المتعلمين تعليماً نظريّاً قد لا يجدون لهم مكاناً في سوق العمل الذي قد يتطلب في مرحلة تاريخية ما مهندسين أو أخصائيين أو عمالاً مهرة. ومن هنا يصبح اختيار المسار التعليمي نفسه نوعاً من المخاطرة، إن لم يضع المتعلم في اعتباره تحولات السوق واحتياجاتها إلى نمط تعليمي معين، وخبرات عملية محددة.
وليس هناك شك في أن أحد أسباب بروز مجتمع المخاطرة العالمي هو العولمة بتأثيراتها على مجمل العالم. لأن الأخطار تنتشر بصرف النظر عن الاعتبارات الزمانية والمكانية، كما رأينا في انتشار مرض الإيدز، أو جنون البقر، أو انفلونزا الطيور. بعبارة أخرى فقد أصبحت المخاطر -بفعل العولمة- عابرة للحدود والقوميات والثقافات.